ما هو محلُّ العقلِ للشيخ الامين الشنقيطى رحمه الله
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
ما هو محلُّ العقلِ للشيخ الامين الشنقيطى رحمه الله
? المسألة الأولى التي هي : محلُّ العقلِ ، هو ما سَتراهُ ?
ولا يخفى على معاليكم أنَّ بحثَ ( العقلِ ) بحثٌ فلسفيٌّ قديم , وللفلاسفة فيه مائة طريقٍ باعتباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ , غالبُها : كلُّه تخمينٌ وكذبٌ وتخبطٌ في ظلامِ الجهلِ .
وهم يسمّونَ الملائكةَ : عُقولاً (2) .
ويُكثرونَ البحثَ في (العقولِ العشرةِ) المعروفة عندهم ، ويزعمون أن المؤثِّر في العالمِ هو العقلُ الفيَّاضِ (3) ، وأنَّ نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشَّمسُ على المرآةِ فتحصلُ تأثيراتُه بذلك الانعكاس (4) .
ويبحثونَ في (العقلِ البَسيطِ) الذي يُمَثِّلُ به المنطِقيّون ?(النَّوعِ البَسيطِ) … إلى غيرِ ذلك من بحوثِهم الباطلة المتعلِّقة بالعقلِ من نواحٍ شتَّى .
[ الأَقوالُ في المَسألَةِ ]
1ـ ومِن تلكَ البحوثِ (5) قولِ عامَّتِهم إلاَّ القليل منهم : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمينَ , ويُذكَرُ عن الإمام أحمد : أنَّه جاءت عنهُ روايةٌ بذلك .
2ـ وعامَّةُ علماءِ المسلمينَ على : أَنَّ محلَّ العقلِ : القَلبُ .
وسَنُوَضِّح إنْ شاءَ الله تعالى حُجج الطَّرفين ، ونُبَيِّن ما هو الصواب في ذلك .
• اعلم وفَّقنا الله وإيَّاك أنَّ العقل : نورٌ روحانِيٌّ تُدرِكُ بهِ النَّفسُ العلومَ النَّظريَّةِ والضَّرورِيَّةِ . وأنَّ مَن خَلَقَهُ وابرزَهُ من العَدَمِ إلى الوجودِ ، وزَيَّن به العُقلاءَ وأكرمَهُم به (6) : أعلمُ بمكانِهِ الذي جعلهُ فيه مِن جُملةِ (7) الفلاسفَةِ الكَفَرَةِ الخاليةِ قلوبِهم من نورٍ سماويٍّ وتعليمٍ إلهيٍّ .
وليسَ أحدٌ بعدَ اللهِ أعلمُ بمكانِ العقلِ من النَّبِيِِّ ( ، الذي قالَ في حَقِّهِ ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? (8) .
وقالَ تَعالَى عن نَفسِهِ : ? قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? (9) .
والآياتُ القرآنيّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ في كلٍّ منها التَّصريحُ بكثرَةٍ : بِأَنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وكثرةُ ذلكَ وتكرارُهُ في الوحيينِ : لا يتركُ احتمالاً ولا شكَّاً في ذلكَ , وكلَّ نَظَرٍ عَقلِيٍّ صحيحٍ يستحيلُ أن يخالفَ الوحْيَ الصَّريحَ , وسنذكرُ طرفاً من الآياتِ الدَّالة على ذلك ، وطَرَفاً من الأحاديثِ النَّبويَّةِ , ثم نُبَيِّنُ حُجَّةَ مَن خالفَ الوَحيَ من الفلاسفةِ ومَن تَبِعَهُم ، ونُوَضِّحُ الصَّوابَ في ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى .
• واعلمْ أوّلاً : أنَّه يغلبُ في الكتابِ والسّنةِ إطلاقُ ( القلبِ ) وإرادةُ ( العقلِ ) وذلك أُسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ ؛ لأنَّ من أساليبِ اللغةِ العربيَّةِ : (إطلاقُ المحلِّ وإرادةُ الحالِّ فيهِ) كعكسِهِ ، والقائلونَ بالمجازِ يُسمّون ذلك الأسلوبَ العربيَّ : مجازاً مُرسَلاً (10) .
ومِنْ عِلاقات (المجازِ الْمُرسَلِ) (11) عندَهم :
1 : المحليّة (12) .
2 : والحاليّة (13) .
[ فالْمَحَلِّيَّةُ ] (14) : كإطلاقِ (القلبِ) وإرادةِ (العقلِ) ؛ لأنَّ القلبَ محلُّ العقلِ .
وكإطلاقِ (النَّهرِ) الذي هو الشَّقُّ في الأرضِ على (الماءِ الجاري فيه) كما هو معلومٌ في محلِّه .
وهذهِ بعضُ نُصوصِ الوَحيينِ :
1ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (15) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? الآيَةُ (16) فعابَهُم الله بأنَّهم لا يَفقهونَ بقلوبِهم ؛ والفِقهُ : هو الفَهمُ (17) ، والفَهمُ لا يكونُ إلاَّ بِالعَقلِ , فدلَّ ذلك على : أنَّ القلبَ محلُّ العقلِ . ولو كانَ الأمرُ كما زعمَ الفلاسفةُ لقالَ [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( لهم أدمغةً لا يفقهونَ بها ) .
2ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (18) ولم يقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فتكُونُ لهُم أدمغةٌ يَعقِلونَ بها ) ، ولم يَقُل : ( ولكنْ تَعمَى الأدمِغَة التي في الرُّؤوسِ ) . كما ترى فقد صرَّح في آية الحجِّ هذه بأنَّ : القلوب هي التي يُعقَل بها ، وما ذلك إلا لأنها محل العقلِ كما ترى . ثم أكَّد ذلك تأكيداً لا يترُكُ شبهةً ولا لبساً ؛ فقال تَعالَى : ? وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (19) فتأمل قوله [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] ? الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أنَّ القلوبَ التي في الصُّدورِ هي التي تَعمَى إذا سَلَبَ الله منها نورَ العقلِ ، فلا تُمَيِّزُ بعد عَماها بين الحقِّ والباطلِ ، ولا بين الحسنِ والقبيحِ ، ولا بين النَّافعِ والضَّارِّ ، وهو صريحٌ بأنَّ الذي يُمَيَّزُ به كلُّ ذلك هو العقلُ ومحلُّهُ في القلبُ .
3ـ وقالَ تَعالى : ? يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? ولم يقل : ( بدِماغٍ سَليمٍ ) .
4ـ وقالَ تَعالَى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ? الآيَةُ (20) ولم يقُل : ( على أدمِغَتِهم ) .
5ـ وقالَ اللهُ تَبارَك وَتَعالَى : ? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (21) أَن يَفْقَهُوهُ ? الآيَةُ (22) ومفهومُ مُخالفَةِ الآيةُ : أنَّهُ لو لم يجعل الأكِنَّةَ على قُلوبهم لَفَقَهوهُ بِقُلُوبهم ، وذلك لأنَّ محلَّ العقلِ القلبُ كما ترى , ولم يقل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه ) .
6ـ وَقالَ اللهُ تَبارَك وتَعالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ? الآيَةُ (23) ولم يَقُل : ( لمن كان لهُ دماغٌ ) .
7ـ وَقالَ تَعالَى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيَةُ (24) ولم يَقُل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( ثم قَسَتْ أَدمِغَتِكُمْ ) وكَونُ القَلبِ إذا قَسَى لم يُطِع صاحِبُهُ اللهَ وإذا لانَ (25) أطاعَ اللهَ : دليلٌ على أنَّ الْمُمَيَّزَ (الذى) تُرادُ به الطَّاعَةُ والمعصيةُ محلُّهُ القلبُ كما ترى وهو العَقلُ .
8ـ وقالَ تَعالَى : ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? (26) .
9ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ (27) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? (28) ولم يَقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فويلٌ للقاسِيَةِ أدمِغَتِهِم ) ولم يَقُل : ( فطالَ عليهِم الأمدُ فَقَسَت أَدمِغَتِهِم ) .
10ـ { صَفْحَة : 3 } وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (29) ولم يَقُلْ : ( وخَتَمَ على سَمعِهِ ودِماغِهِ ) .
11ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ (30) بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (31) ولم يَقُلْ : ( دِماغُهُ ) .
12ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ? (32) ولم يَقُل : ( ما ليسَ في أَدمِغَتِهم ) .
13ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ (33) ? (34) ولم يَقُل : ( أَدمِغَتِهِم مُنكِرَةٌ ) .
14ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ (35) عَن قُلُوبِهِمْ ? (36) ولم يَقُل : ( إذا فُزِّعَ عن أدمِغَتِهِم ) .
15ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? الآيَةُ (37) ولم يقل : ( أم على أدمغتهم أقفالُها ) .
وانظُر ! ما أصرَحَ آيةَ القتالِ هذهِ : في أنَّ التَّدَبُّرَ وإدراكَ المعانِيَ بهِ إنما هو القلبُ ، ولو جُعِلَ على القلبِ قُفلٌ لم يحصل الإدراك ؛ فَتَبَيَّنَ : أنَّ الدماغَ ليس هو محلُّ الإدراكِ كما ترى .
16ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ (38) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? الآيَةُ (39) ولم يقل : ( أزاغ الله أدمغتهم ) .
17ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الآيَةُ (40) ولم يقل : ( تَطْمَئِنُّ أدمغتهم ) .
18ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ (41) قُلُوبُهُمْ ? الآيَةُ (42) ولم يقل : ( وَجِلَتْ أدمغتهم ) .
و(الطُّمَائْنِينَةُ) و(الخَوْفُ عِندَ ذِكرِ اللهِ) كلاهُما إنما يحصلُ بالفَهمِ والإدراكِ , وقد طَرَحَت الآياتُ المذكورةِ بأنَّ محلَّ ذلكَ : القلبُ لا الدِّماغُ .
19ـ وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الذي يُدرِكُ الخطرَ فَيَخافُ مِنهُ (43) ؛ هو : القلبُ الذي هو محلُّ العقلِ لا الدِّماغ , كقولِهِ تَعالَى : ? وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ? الآيَةُ (44) . وقَولُهُ تَعالَى : ? قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ? (45) وإنْ كان الخوفُ تَظهَرُ آثارُهُ على الإنسانِ .
20ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ? الآيَةُ (46) ولم يقل : ( ونطبعُ على أَدمِغَتِهِم ) .
21ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? الآيَةُ (47) .
22ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ? الآيَةُ (48) والآيَتانِ المذكورتانِ فيهما الدَّلالةُ على أنَّ محلَّ إدراكِ الخطرِ الْمُسَبِّبِ للخَوفِ هو القلبُ كما ترى لا الدِّماغُ .
والآياتُ الواردَةُ في الطَّبعِ على القُلوبِ مُتعدِّدةٌ :
23ـ كَقَولِهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ : آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ؛ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (49) ولم يَقُل : ( فطبعَ على أَدمِغَتِهِم ) .
24ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ (50) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (51) ولم يَقُل : ( على أَدمِغَتِهِم ) .
25ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? الآيَةُ (52) و(الطُّمَأْنِينَةُ بِالإِيمانِ) إِنَّما تَحصُلُ بإدراكِ فَضلِ [ الإِيمانِ ] (53) وحُسنِ نَتائِجِهِ وعَواقِبِهِ ، وقد صرَّحَ في هذهِ الآيةِ { صَفْحَة : 4 } بإسنادِ ذلكَ الاطْمِئنانِ إلَى القَلبِ الذي هو محلُّ العقلِ الذي هو أداةُ النَّفسِ إلَى الإدراكِ . ولم يَقُل : ( ودماغُهُ مُطمَئِنٌ بالإيمانِ ) .
26ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنَّا . قُل : لَّمْ تُؤْمِنُوا ، وَلَكِن قُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? (54) ولم يَقُل : ( في أَدمِغَتِهِم ) .
27ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? (55) ، فقولُهُ تَعالَى : ? وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? , وَقَولُهُ : ? كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? صريحٌ في أَنَّ المحلَّ [ الذي ] (56) يدخُلُهُ الإيمانُ في المؤمِنِ ويَنتَفِي عنهُ دُخولُه في الكُفرِ : إنَّما هو القلبُ لا الدِّماغُ . وأساسُ الإيمانُ : إيمانُ القلبِ ؛ لأنَّ الجوارحَ كُلَّها تَبَعَ لهُ ؛ كما قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (57) .
فظهرَ بذلكَ دِلالةُ الآيَتَينِ المذكورتَينِ على : أنَّ المصدرَ الأولَ للإيمانِ القلبُ ، فإذا آمَنَ القلبُ آمَنَت الجوارحُ بِفِعلِ المأموراتِ وتركِ المنهِيَّاتِ ؛ لأنَّ القلبَ أميرُ البَدَنِ , وذلك يدلُّ دِلالةً واضِحَةً على : أنَّ القلبَ ما كانَ كذلكَ إلاَّ لأنَّهُ محلُّ العقلِ الذي بهِ الإدراكُ والفَهمُ كَمَا تَرَى .
28ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? الآيَةُ (58) فأسندَ الإثمَ بِكَتمِ الشَّهادةِ للقلبِ ولم يُسنِدْهُ للدِّماغِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ كتمَ الشَّهادةِ الذي هو سببُ الإثمِ واقعٌ عن عَمدٍ ، و أَنَّ محلَّ ذلكَ العَمْدُ : القلبُ ؛ وذلكَ لأنَّه محلُّ العقلِ الذي يحصُلُ بهِ الإدراكُ وقصدُ الطَّاعَةِ وقَصدُ المعصِيةِ كما تَرى .
29ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ في حفصةَ وعائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ : فَقَدْ صَغَتْ (59) قُلُوبُكُمَا ? (60) أَي : إنْ مالَت قُلوبُكُما إلَى أمرٍ تَعلَمان أنَّه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُهُ , سواءٌ قُلنا :
1 : إِنَّهُ تحريمُ شُربِ العَسَلِ الذي كانَت تَسقِيهِ إيّاهُ إحدَى نِسائِهِ (61) .
2 : أو قُلْنا : إنَّهُ تحريمُ جارِيتَهُ مارِيةَ (62) .
فقولُهُ تَعالى : ? صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? أَي مالَت ، يدلُّ على أنَّ الإدراكَ وقصدُ الميلِ المذكورِ محلُّهُ : القلبُ . ولو كان الدِّماغُ لقالَ : ( فقد صَغَتَ أدمِغَتُكُما ) كما ترى .
ولما ذكرَ كلٌّ منَ اليهودِ والمشركينَ أنَّ محلَّ عقولِهم هو قلوبُهُم ، قَرَّرَهُم اللهُ على ذلكَ ؛ لأنَّ كونَ القلبِ محلُّ العقلِ هوَ حقٌّ , وأَبطلَ دَعواهُم مِن جهةٍ أُخرى ، وذلكَ يَدلُّ بإيضاحٍ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ .
30ـ أما اليهودُ لعنَهُم اللهُ :
فقد ذكر اللهُ ذلك عنهم في قولِهَِ : ? وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (63) , فقالَ تعالى : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ { صَفْحَة : 5 } ? (64) فقولُهم : ? قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? [ (غلف) فيها قِراءتانِ ] (65) :
1 : (غُلْفٌ) بسكونِ الَّلامِ (66) ؛ يعنونَ : أَنَّ عليها غِلافاً أي : غِشاءً يَمْنَعُها مِن فهمِ ما تَقولُ .
فقرَّرَهُم اللهُ تَعالَى على : أَنَّ قلوبَهم هيَ محلُّ الفَهمِ والإدراكِ ؛ لأنَّها محلُّ العقلِ ، ولكن كَذَّبَهم في ادِّعائِهم أَنَّ عليها غِلافاً مانِعاً مِن الفَهمِ , فقالَ على سبيلِ الإضْرابِ الإبْطالِي (67) : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
2 : وأمَّا على قِراءَةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : ( قُلُوبُنا غُلُفْ ) بِضَمَّتَين ؛ يَعنونَ : أنَّ قُلوبَهم كأنَّها غِلافٌ مَحْشُوٌّ بِالعُلومِ والمعارِفِ فلا حاجَةَ إلَى ما تَدعونَنا إليهِ .
وذلكَ يدلُّ على عِلمِهِم بأَنَّ محلَّ العلمِ والفَهمِ : القُلوبَ لا الأدمِغَةَ .
31ـ وأمَّا المشركونَ :
فقد ذكرَ اللهُ ذلكَ عنهُم في قولِهِ : ? وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ? الآيَةُ (68) فكانوا عالِمِين بأنَّ محلَّ العقلِ : القلبُ , ولذا قالوا : ? قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ? ولم يَقولُوا : ( أدمِغَتِنا في أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) , والله لم يُكَذِّبْهُم في ذلكَ ولكنَّهُ وَبَّخَهُم على كُفرِهِم بِقولِهِ : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ? الآيَةُ (69) وهذه الآياتِ التي أُطلِقَ فيها القلبُ مراداً بهِ العقلُ ؛ لأنَّ القلبَ هو محلُّهُ , أوضحَ اللهُ المرادَ منها بقولِهِ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ? الآيَةُ (70) فصَرَّحَ : بأَنَّهم يَعقِلونَ بالقلوبِ ، وهو يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ دلالةً لا مطعنَ فيها كما ترى .
32ـ وقالَ اللهُ تعالَى : ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? (71) ولم يَقُل : ( يختمُ على دِماغِكَ ) .
33ـ وقالَ تَعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ? (72) ولم يقُلْ : ( خَتَمَ على أدمِغَتِكُم ) .
34ـ وقالَ تعالى في سُوْرَةُ النَّحلِ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? (73) ، وقالَ تعالَى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ? الآيَةُ (74) ولم يَقُل : ( امْتَحَنَ أَدمِغَتَهُم ) .
35ـ وقالَ تَعالَى : ? وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ? الآيَةُ (75) والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ ؛ ولِنَكْتَفِ مِنْها بما ذَكَرْناهُ خَشيَةَ الإطالَةِ الْمُمِلَّةِ .
• وأَمَّا الأَحاديثُ الْمُطابِقَةُ لِلآياتِ التي ذَكَرناها والدَّالَّةِ على أَنَّ مَحَلَّ العَقلِ القَلبُ فهِيَ كَثيرةٌ جِدّاً :
كالحديثِ الصَّحيحِ والذي فيهِ : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (76) ولم يقل فيه : ( أَلا وَهِي الدِّماغُ ) .
وكقولِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » . قَالَ : فَقُلْنَا ! يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا » (77) ولم يقلْ : ( يا مُقَلِّبَ الأدمِغَةَ ثَبِّتْ دِماغِي على دِينِكَ ) .
وكقولِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلِّم : « قَلْبُ المؤْمِنِ بَينَ إصْبَعَينِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحمنِ » (78) وهو مِن أحاديثِ الصِّفاتِ { صَفْحَة : 6 }، ولم يقل : دِماغُ المؤمن … إلخ .
والأحاديثُ بِمثِلِ هذا كثيرةٌ جِدّا فلا نُطيلُ بها الكلامَ .
[ الخُلاصَةُ ]
وقد تَبَيَّنَ ممَّا ذَكَرنا : أَنَّ خالِقَ العَقلِ وواهِبَهُ للإنسانِ بَيَّنَ في آياتٍ قُرآنِيّةٍ كَثيرةٍ أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وخالِقُهُ أعلمُ بمكانِهِ مِن كَفَرَةِ الفَلاسِفَةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم كما رَأَيتَ .
أمَّا عامَّةُ الفَلاسِفَةِ إلاَّ القليلُ النَّادِرِ مِنهُم فإنَّهم يَقولونَ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وشذَّت طائفةٌ مِن مُتأخِّريهم : فزَعَموا أنَّ العَقلَ ليسَ لهُ مَركَزٌ مَكانِيٌّ في الإنسانِ أَصلاً ؛ وإنَّما هو زَمانِيٌّ مَحضٌ لا مَكانَ لهُ .
وقولُ هؤلاءِ أَظهَرُ سُقوطاً مِن أنْ يُشْتَغَلُ بِالكَلامِ عَلَيهِ .
ومِن أشهرِ الأَدلَّةِ التي يَستَدِلُّ بها القائلونَ مِنْ أنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ ؛ هو : أنَّ كلَّ شيءٍ يُؤثِّرُ في الدِّماغِ يُؤثِّرُ في العقلِ .
ونحنُ لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ؛ ولكن نَقولُ بِموجِبِهِ , فنقولُ : سَلَّمنا أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلكَ يَستَلزِمُ أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ :
فَكَم مِن عُضوٍ مِن أعضاءٍ الإنسانِ خارِجٌ عَنِ الدِّماغِ بلا نِزاعٍ وهوَ يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ كما هوَ معلومٌ .
وكَم مِن شَلَلٍ في بعضِ أعضاءِ الإنسانِ ناشِئٌ عَن اختلالٍ واقِعٍ في الدِّماغِ .
فالعقلُ خارِجٌ عَن الدِّماغِ ؛ ولكنَّ سَلامَتَهُ مَشروطَةٌ بِسلامَةِ الدِّماغِ ؛ كالأعضاءِ التي تختلُّ باختِلالِ الدِّماغِ ؛ فإنَّها خارِجَةٌ عنهُ معَ أنَّ سلامَتَها مَشروطٌ فيها سلامَةُ الدِّماغِ كما هوَ معروفٌ .
وإظهارُ حُجَّةَ هؤلاءِ والرَّدُّ عليها على الوجهِ المعروفِ في (آدابِ البحثِ والمناظرةِ) :
أنَّ حاصِلَ دليلِهم : أنهم يستدلون بـ(قياسٍ منطقيٍّ) من الشرطِ المتَّصلِ المركَّبِ من : شَرطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزومِيَّةٍ واستِثنائِيَّة يَستَثنونَ فيهِ نَقيضَ التَّالِي فينتجُ لهم في زعمِهم دعواهُم المذكورَةُ والتي هي نَقيضُ المقدَّمِ .
وصورَتُهُ : أنَّهم يقولونَ : ( لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ على الدِّماغِ ، لكنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ مُؤَثِّرٍ على الدِّماغِ . فَيَنتُجُ : أَنَّ العقلَ في الدِّماغِ ) .
وهذا الاستدلالُ مردودٌ بالنَّقضِ التَّفصيليِّ الذي هوَ المنعُ ؛ وذلك : بِمَنعِ كُبْراهُ التي هيَ شَرطِيَّتُهُ ؛ فنقولُ :
المانِعُ : مَنعُ قولِكَ : (لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ علي الدِّماغِ) بل هو خارِجٌ عَن الدِّماغِ ، معَ أَنَّهُ يتأثَّرُ بكلِّ مؤثِّرٍ على الدِّماغِ كغيرِهِ مِنَ الأعضاءِ التي تتأثَّرُ بِتأثّرِ الدِّماغِ . فالرَّابطُ بينَ التَّاليِ والمقدّم غَيرُ صحيحٍ ، والمحلُّ الذي يَتوارَدُ عليهِ { صَفْحَة : 7 } الصِّدقُ والكذِبُ في الشَّرطِيَّةِ إنَّما هو الرَّابِطُ بين مُقَدِّمِها وتاليها , فإنْ لم يكُن الرَّبطُ صَحيحاً كانَت كاذِبِةً , والرَّبطُ في قَضِيتِهم المذكورةِ : كاذِبٌ , فظهرَ بُطلانُ دَعواهُم .
وهناكَ طائفةٌ ثالثةٌ : أرادت أنْ تجمعَ بينَ القولين ؛ فقالتْ : إنَّ ما دَلَّ عليه الوحي مِن كونِ محلِّ العقلِ هو القلبُ صحيحٌ , وما يقولُه الفلاسفةُ ومَن وافَقهُم من أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ صحيحٌ أيضاً , فلا منافاةَ بينَ القولَين .
قالُوا : ووجهُ الجَمعِ أنَّ العقلَ في القَلبِ كما فِي القُرآنِ والسَّنة ، ولكنَّ نُورُهُ يَتَصاعَدُ مِنْ القَلبِ فيتَّصِلُ بِالدِّماغِ ، وبواسطةِ اتِّصالِهِ بالدِّماغِ يَصدُقُ عليهِ أنَّهُ في الدِّماغِ من غيرِ مُنافاةٍ لكونِ محلِّهِ هو القلبُ .
قالُوا : وبهذا يندَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ النَّظرِ العَقلي الذي زعمَهُ الفلاسفةُ وبَينَ الوَحي .
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمعِ بـ(الاستقراءِ غَيرِ التَّامِّ) وهوَ المعروفُ في الأصولِ بـ(الإِلحاقِ بالغالبِ) وهو حُجَّة ظنِّيَّةٌ عِندَ جماعةٍ مِنَ الأصوليينَ ، وإليه أشارَ صاحبُ (مراقي السُّعودِ) في كتابِ الاستدلالِ (79) ، في الكلامِ على أقسامِ الاستقراء بقوله :
وَهْوَ لَدَىَ البَعْضُ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبَ يُسْمَى لُحُوْقَ الفَرْدِ بِالَّذِيْ غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ (الاستقراءَ) هوَ : تَتَبّعُ الأفرادِ حتى يغلبَ على ظنِّهِ أنَّ ذلكَ الحكمَ مُطَّرِدُ فِي جميعِ الأَفرادِ .
وإيضاحُ هذا : أنَّ القائلينَ بالجمعِ المذكورِ بين الوحيَ وأقوالَ أهلِ الفلسفَةِ في محلِّ العقلِ ؛ قالت جماعةٌ منهُم : دليلُنا على هذا الجمعِ الاستقراءُ غيرُ التَّامِّ , وذلك أنَّهم قالوا : تتبَّعنا أفرادَ الإنسانِ الطَّويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً زائِداً على المعهودِ زِيادَةً بَيِّنَةً ؛ فوجَدنا كلَّ طويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً ناقِصَ العَقلِ ؛ وذلك لأنَّ طولَ [ العُنُق ] (80) طولاً مُفرِطاً يلزمُهُ بُعدَ المسافةِ بينَ طريقِ نُورِ العقلِ الكائنِ في القلبِ وبينَ المتصاعِدِ منهُ إلى الدِّماغِ , وبُعدُ المسافةِ بينَ طَرَفيهِ قد يُؤدِّي إلى عدمِ تماسُكِه واجتماعِه فيظهرُ فيه النَّقصُ .
وهذا الدَّليلُ كما ترى ليسَ فيه مقنَعٌ وإنْ كان يُشاهَدُ مِثلَهُ في الخارِجِ كَثيراً .
? فتَحصَّل مِنْ هذا :
أنَّ الذي يقولُ : ( أنَّ العقلَ في الدِّماغِ وحدَهُ وليسَ في القلبِ منهُ شيءٌ ) أنَّ قولَهُ في غايةِ البُطلانِ ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لآياتٍ وأحاديثَ كثيرةٍ جدّاً كما ذَكَرنا بعضَهُ .
وهذا القولُ لا يتجرّأُ عليهِ مسلمٌ إلاَّ إن كانَ لا يُؤمِنُ بكتابِ اللهِ ولا بِسُنَّةِ رسولِهِ ( ؛ وهوَ إنْ كانَ كذلكَ : فَلَيسَ بمسلمٍ { صَفْحَة : 8 } .
ومَنْ قالَ : ( إنَّهُ في القلبِ وحدَهُ وليسَ في الدِّماغِ منهُ شيءٌ ) فقولُهُ هو ظاهِرُ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِهِ ( ، ولم يقُم دليلٌ جازمٌ قاطعٌ مِن نَقلٍ ولا عقلٍ على خِلافِهِ .
ومَنْ جمعَ بينَ القولينِ ؛ فقولُهُ : جائزٌ عَقلاً ، ولا تكذيبَ فيهِ للكتابِ ولا للسّنّةِ ، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ؛ ولا دليلَ عليهِ منَ النَّقلِ ؛ فإنْ قامَ عليهِ دليلٌ مِن عقلٍ أو استقراءٍ محتجٌّ بهِ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِه . والعلمُ عندَ الله .
وهذا ما يَتَعَلَّقُ بِالمسأَلَةِ الأُولَى
ولا يخفى على معاليكم أنَّ بحثَ ( العقلِ ) بحثٌ فلسفيٌّ قديم , وللفلاسفة فيه مائة طريقٍ باعتباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ , غالبُها : كلُّه تخمينٌ وكذبٌ وتخبطٌ في ظلامِ الجهلِ .
وهم يسمّونَ الملائكةَ : عُقولاً (2) .
ويُكثرونَ البحثَ في (العقولِ العشرةِ) المعروفة عندهم ، ويزعمون أن المؤثِّر في العالمِ هو العقلُ الفيَّاضِ (3) ، وأنَّ نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشَّمسُ على المرآةِ فتحصلُ تأثيراتُه بذلك الانعكاس (4) .
ويبحثونَ في (العقلِ البَسيطِ) الذي يُمَثِّلُ به المنطِقيّون ?(النَّوعِ البَسيطِ) … إلى غيرِ ذلك من بحوثِهم الباطلة المتعلِّقة بالعقلِ من نواحٍ شتَّى .
[ الأَقوالُ في المَسألَةِ ]
1ـ ومِن تلكَ البحوثِ (5) قولِ عامَّتِهم إلاَّ القليل منهم : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمينَ , ويُذكَرُ عن الإمام أحمد : أنَّه جاءت عنهُ روايةٌ بذلك .
2ـ وعامَّةُ علماءِ المسلمينَ على : أَنَّ محلَّ العقلِ : القَلبُ .
وسَنُوَضِّح إنْ شاءَ الله تعالى حُجج الطَّرفين ، ونُبَيِّن ما هو الصواب في ذلك .
• اعلم وفَّقنا الله وإيَّاك أنَّ العقل : نورٌ روحانِيٌّ تُدرِكُ بهِ النَّفسُ العلومَ النَّظريَّةِ والضَّرورِيَّةِ . وأنَّ مَن خَلَقَهُ وابرزَهُ من العَدَمِ إلى الوجودِ ، وزَيَّن به العُقلاءَ وأكرمَهُم به (6) : أعلمُ بمكانِهِ الذي جعلهُ فيه مِن جُملةِ (7) الفلاسفَةِ الكَفَرَةِ الخاليةِ قلوبِهم من نورٍ سماويٍّ وتعليمٍ إلهيٍّ .
وليسَ أحدٌ بعدَ اللهِ أعلمُ بمكانِ العقلِ من النَّبِيِِّ ( ، الذي قالَ في حَقِّهِ ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? (8) .
وقالَ تَعالَى عن نَفسِهِ : ? قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? (9) .
والآياتُ القرآنيّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ في كلٍّ منها التَّصريحُ بكثرَةٍ : بِأَنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وكثرةُ ذلكَ وتكرارُهُ في الوحيينِ : لا يتركُ احتمالاً ولا شكَّاً في ذلكَ , وكلَّ نَظَرٍ عَقلِيٍّ صحيحٍ يستحيلُ أن يخالفَ الوحْيَ الصَّريحَ , وسنذكرُ طرفاً من الآياتِ الدَّالة على ذلك ، وطَرَفاً من الأحاديثِ النَّبويَّةِ , ثم نُبَيِّنُ حُجَّةَ مَن خالفَ الوَحيَ من الفلاسفةِ ومَن تَبِعَهُم ، ونُوَضِّحُ الصَّوابَ في ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى .
• واعلمْ أوّلاً : أنَّه يغلبُ في الكتابِ والسّنةِ إطلاقُ ( القلبِ ) وإرادةُ ( العقلِ ) وذلك أُسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ ؛ لأنَّ من أساليبِ اللغةِ العربيَّةِ : (إطلاقُ المحلِّ وإرادةُ الحالِّ فيهِ) كعكسِهِ ، والقائلونَ بالمجازِ يُسمّون ذلك الأسلوبَ العربيَّ : مجازاً مُرسَلاً (10) .
ومِنْ عِلاقات (المجازِ الْمُرسَلِ) (11) عندَهم :
1 : المحليّة (12) .
2 : والحاليّة (13) .
[ فالْمَحَلِّيَّةُ ] (14) : كإطلاقِ (القلبِ) وإرادةِ (العقلِ) ؛ لأنَّ القلبَ محلُّ العقلِ .
وكإطلاقِ (النَّهرِ) الذي هو الشَّقُّ في الأرضِ على (الماءِ الجاري فيه) كما هو معلومٌ في محلِّه .
وهذهِ بعضُ نُصوصِ الوَحيينِ :
1ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (15) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? الآيَةُ (16) فعابَهُم الله بأنَّهم لا يَفقهونَ بقلوبِهم ؛ والفِقهُ : هو الفَهمُ (17) ، والفَهمُ لا يكونُ إلاَّ بِالعَقلِ , فدلَّ ذلك على : أنَّ القلبَ محلُّ العقلِ . ولو كانَ الأمرُ كما زعمَ الفلاسفةُ لقالَ [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( لهم أدمغةً لا يفقهونَ بها ) .
2ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (18) ولم يقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فتكُونُ لهُم أدمغةٌ يَعقِلونَ بها ) ، ولم يَقُل : ( ولكنْ تَعمَى الأدمِغَة التي في الرُّؤوسِ ) . كما ترى فقد صرَّح في آية الحجِّ هذه بأنَّ : القلوب هي التي يُعقَل بها ، وما ذلك إلا لأنها محل العقلِ كما ترى . ثم أكَّد ذلك تأكيداً لا يترُكُ شبهةً ولا لبساً ؛ فقال تَعالَى : ? وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (19) فتأمل قوله [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] ? الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أنَّ القلوبَ التي في الصُّدورِ هي التي تَعمَى إذا سَلَبَ الله منها نورَ العقلِ ، فلا تُمَيِّزُ بعد عَماها بين الحقِّ والباطلِ ، ولا بين الحسنِ والقبيحِ ، ولا بين النَّافعِ والضَّارِّ ، وهو صريحٌ بأنَّ الذي يُمَيَّزُ به كلُّ ذلك هو العقلُ ومحلُّهُ في القلبُ .
3ـ وقالَ تَعالى : ? يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? ولم يقل : ( بدِماغٍ سَليمٍ ) .
4ـ وقالَ تَعالَى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ? الآيَةُ (20) ولم يقُل : ( على أدمِغَتِهم ) .
5ـ وقالَ اللهُ تَبارَك وَتَعالَى : ? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (21) أَن يَفْقَهُوهُ ? الآيَةُ (22) ومفهومُ مُخالفَةِ الآيةُ : أنَّهُ لو لم يجعل الأكِنَّةَ على قُلوبهم لَفَقَهوهُ بِقُلُوبهم ، وذلك لأنَّ محلَّ العقلِ القلبُ كما ترى , ولم يقل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه ) .
6ـ وَقالَ اللهُ تَبارَك وتَعالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ? الآيَةُ (23) ولم يَقُل : ( لمن كان لهُ دماغٌ ) .
7ـ وَقالَ تَعالَى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيَةُ (24) ولم يَقُل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( ثم قَسَتْ أَدمِغَتِكُمْ ) وكَونُ القَلبِ إذا قَسَى لم يُطِع صاحِبُهُ اللهَ وإذا لانَ (25) أطاعَ اللهَ : دليلٌ على أنَّ الْمُمَيَّزَ (الذى) تُرادُ به الطَّاعَةُ والمعصيةُ محلُّهُ القلبُ كما ترى وهو العَقلُ .
8ـ وقالَ تَعالَى : ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? (26) .
9ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ (27) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? (28) ولم يَقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فويلٌ للقاسِيَةِ أدمِغَتِهِم ) ولم يَقُل : ( فطالَ عليهِم الأمدُ فَقَسَت أَدمِغَتِهِم ) .
10ـ { صَفْحَة : 3 } وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (29) ولم يَقُلْ : ( وخَتَمَ على سَمعِهِ ودِماغِهِ ) .
11ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ (30) بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (31) ولم يَقُلْ : ( دِماغُهُ ) .
12ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ? (32) ولم يَقُل : ( ما ليسَ في أَدمِغَتِهم ) .
13ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ (33) ? (34) ولم يَقُل : ( أَدمِغَتِهِم مُنكِرَةٌ ) .
14ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ (35) عَن قُلُوبِهِمْ ? (36) ولم يَقُل : ( إذا فُزِّعَ عن أدمِغَتِهِم ) .
15ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? الآيَةُ (37) ولم يقل : ( أم على أدمغتهم أقفالُها ) .
وانظُر ! ما أصرَحَ آيةَ القتالِ هذهِ : في أنَّ التَّدَبُّرَ وإدراكَ المعانِيَ بهِ إنما هو القلبُ ، ولو جُعِلَ على القلبِ قُفلٌ لم يحصل الإدراك ؛ فَتَبَيَّنَ : أنَّ الدماغَ ليس هو محلُّ الإدراكِ كما ترى .
16ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ (38) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? الآيَةُ (39) ولم يقل : ( أزاغ الله أدمغتهم ) .
17ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الآيَةُ (40) ولم يقل : ( تَطْمَئِنُّ أدمغتهم ) .
18ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ (41) قُلُوبُهُمْ ? الآيَةُ (42) ولم يقل : ( وَجِلَتْ أدمغتهم ) .
و(الطُّمَائْنِينَةُ) و(الخَوْفُ عِندَ ذِكرِ اللهِ) كلاهُما إنما يحصلُ بالفَهمِ والإدراكِ , وقد طَرَحَت الآياتُ المذكورةِ بأنَّ محلَّ ذلكَ : القلبُ لا الدِّماغُ .
19ـ وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الذي يُدرِكُ الخطرَ فَيَخافُ مِنهُ (43) ؛ هو : القلبُ الذي هو محلُّ العقلِ لا الدِّماغ , كقولِهِ تَعالَى : ? وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ? الآيَةُ (44) . وقَولُهُ تَعالَى : ? قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ? (45) وإنْ كان الخوفُ تَظهَرُ آثارُهُ على الإنسانِ .
20ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ? الآيَةُ (46) ولم يقل : ( ونطبعُ على أَدمِغَتِهِم ) .
21ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? الآيَةُ (47) .
22ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ? الآيَةُ (48) والآيَتانِ المذكورتانِ فيهما الدَّلالةُ على أنَّ محلَّ إدراكِ الخطرِ الْمُسَبِّبِ للخَوفِ هو القلبُ كما ترى لا الدِّماغُ .
والآياتُ الواردَةُ في الطَّبعِ على القُلوبِ مُتعدِّدةٌ :
23ـ كَقَولِهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ : آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ؛ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (49) ولم يَقُل : ( فطبعَ على أَدمِغَتِهِم ) .
24ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ (50) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (51) ولم يَقُل : ( على أَدمِغَتِهِم ) .
25ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? الآيَةُ (52) و(الطُّمَأْنِينَةُ بِالإِيمانِ) إِنَّما تَحصُلُ بإدراكِ فَضلِ [ الإِيمانِ ] (53) وحُسنِ نَتائِجِهِ وعَواقِبِهِ ، وقد صرَّحَ في هذهِ الآيةِ { صَفْحَة : 4 } بإسنادِ ذلكَ الاطْمِئنانِ إلَى القَلبِ الذي هو محلُّ العقلِ الذي هو أداةُ النَّفسِ إلَى الإدراكِ . ولم يَقُل : ( ودماغُهُ مُطمَئِنٌ بالإيمانِ ) .
26ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنَّا . قُل : لَّمْ تُؤْمِنُوا ، وَلَكِن قُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? (54) ولم يَقُل : ( في أَدمِغَتِهِم ) .
27ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? (55) ، فقولُهُ تَعالَى : ? وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? , وَقَولُهُ : ? كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? صريحٌ في أَنَّ المحلَّ [ الذي ] (56) يدخُلُهُ الإيمانُ في المؤمِنِ ويَنتَفِي عنهُ دُخولُه في الكُفرِ : إنَّما هو القلبُ لا الدِّماغُ . وأساسُ الإيمانُ : إيمانُ القلبِ ؛ لأنَّ الجوارحَ كُلَّها تَبَعَ لهُ ؛ كما قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (57) .
فظهرَ بذلكَ دِلالةُ الآيَتَينِ المذكورتَينِ على : أنَّ المصدرَ الأولَ للإيمانِ القلبُ ، فإذا آمَنَ القلبُ آمَنَت الجوارحُ بِفِعلِ المأموراتِ وتركِ المنهِيَّاتِ ؛ لأنَّ القلبَ أميرُ البَدَنِ , وذلك يدلُّ دِلالةً واضِحَةً على : أنَّ القلبَ ما كانَ كذلكَ إلاَّ لأنَّهُ محلُّ العقلِ الذي بهِ الإدراكُ والفَهمُ كَمَا تَرَى .
28ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? الآيَةُ (58) فأسندَ الإثمَ بِكَتمِ الشَّهادةِ للقلبِ ولم يُسنِدْهُ للدِّماغِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ كتمَ الشَّهادةِ الذي هو سببُ الإثمِ واقعٌ عن عَمدٍ ، و أَنَّ محلَّ ذلكَ العَمْدُ : القلبُ ؛ وذلكَ لأنَّه محلُّ العقلِ الذي يحصُلُ بهِ الإدراكُ وقصدُ الطَّاعَةِ وقَصدُ المعصِيةِ كما تَرى .
29ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ في حفصةَ وعائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ : فَقَدْ صَغَتْ (59) قُلُوبُكُمَا ? (60) أَي : إنْ مالَت قُلوبُكُما إلَى أمرٍ تَعلَمان أنَّه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُهُ , سواءٌ قُلنا :
1 : إِنَّهُ تحريمُ شُربِ العَسَلِ الذي كانَت تَسقِيهِ إيّاهُ إحدَى نِسائِهِ (61) .
2 : أو قُلْنا : إنَّهُ تحريمُ جارِيتَهُ مارِيةَ (62) .
فقولُهُ تَعالى : ? صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? أَي مالَت ، يدلُّ على أنَّ الإدراكَ وقصدُ الميلِ المذكورِ محلُّهُ : القلبُ . ولو كان الدِّماغُ لقالَ : ( فقد صَغَتَ أدمِغَتُكُما ) كما ترى .
ولما ذكرَ كلٌّ منَ اليهودِ والمشركينَ أنَّ محلَّ عقولِهم هو قلوبُهُم ، قَرَّرَهُم اللهُ على ذلكَ ؛ لأنَّ كونَ القلبِ محلُّ العقلِ هوَ حقٌّ , وأَبطلَ دَعواهُم مِن جهةٍ أُخرى ، وذلكَ يَدلُّ بإيضاحٍ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ .
30ـ أما اليهودُ لعنَهُم اللهُ :
فقد ذكر اللهُ ذلك عنهم في قولِهَِ : ? وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (63) , فقالَ تعالى : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ { صَفْحَة : 5 } ? (64) فقولُهم : ? قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? [ (غلف) فيها قِراءتانِ ] (65) :
1 : (غُلْفٌ) بسكونِ الَّلامِ (66) ؛ يعنونَ : أَنَّ عليها غِلافاً أي : غِشاءً يَمْنَعُها مِن فهمِ ما تَقولُ .
فقرَّرَهُم اللهُ تَعالَى على : أَنَّ قلوبَهم هيَ محلُّ الفَهمِ والإدراكِ ؛ لأنَّها محلُّ العقلِ ، ولكن كَذَّبَهم في ادِّعائِهم أَنَّ عليها غِلافاً مانِعاً مِن الفَهمِ , فقالَ على سبيلِ الإضْرابِ الإبْطالِي (67) : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
2 : وأمَّا على قِراءَةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : ( قُلُوبُنا غُلُفْ ) بِضَمَّتَين ؛ يَعنونَ : أنَّ قُلوبَهم كأنَّها غِلافٌ مَحْشُوٌّ بِالعُلومِ والمعارِفِ فلا حاجَةَ إلَى ما تَدعونَنا إليهِ .
وذلكَ يدلُّ على عِلمِهِم بأَنَّ محلَّ العلمِ والفَهمِ : القُلوبَ لا الأدمِغَةَ .
31ـ وأمَّا المشركونَ :
فقد ذكرَ اللهُ ذلكَ عنهُم في قولِهِ : ? وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ? الآيَةُ (68) فكانوا عالِمِين بأنَّ محلَّ العقلِ : القلبُ , ولذا قالوا : ? قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ? ولم يَقولُوا : ( أدمِغَتِنا في أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) , والله لم يُكَذِّبْهُم في ذلكَ ولكنَّهُ وَبَّخَهُم على كُفرِهِم بِقولِهِ : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ? الآيَةُ (69) وهذه الآياتِ التي أُطلِقَ فيها القلبُ مراداً بهِ العقلُ ؛ لأنَّ القلبَ هو محلُّهُ , أوضحَ اللهُ المرادَ منها بقولِهِ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ? الآيَةُ (70) فصَرَّحَ : بأَنَّهم يَعقِلونَ بالقلوبِ ، وهو يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ دلالةً لا مطعنَ فيها كما ترى .
32ـ وقالَ اللهُ تعالَى : ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? (71) ولم يَقُل : ( يختمُ على دِماغِكَ ) .
33ـ وقالَ تَعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ? (72) ولم يقُلْ : ( خَتَمَ على أدمِغَتِكُم ) .
34ـ وقالَ تعالى في سُوْرَةُ النَّحلِ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? (73) ، وقالَ تعالَى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ? الآيَةُ (74) ولم يَقُل : ( امْتَحَنَ أَدمِغَتَهُم ) .
35ـ وقالَ تَعالَى : ? وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ? الآيَةُ (75) والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ ؛ ولِنَكْتَفِ مِنْها بما ذَكَرْناهُ خَشيَةَ الإطالَةِ الْمُمِلَّةِ .
• وأَمَّا الأَحاديثُ الْمُطابِقَةُ لِلآياتِ التي ذَكَرناها والدَّالَّةِ على أَنَّ مَحَلَّ العَقلِ القَلبُ فهِيَ كَثيرةٌ جِدّاً :
كالحديثِ الصَّحيحِ والذي فيهِ : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (76) ولم يقل فيه : ( أَلا وَهِي الدِّماغُ ) .
وكقولِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » . قَالَ : فَقُلْنَا ! يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا » (77) ولم يقلْ : ( يا مُقَلِّبَ الأدمِغَةَ ثَبِّتْ دِماغِي على دِينِكَ ) .
وكقولِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلِّم : « قَلْبُ المؤْمِنِ بَينَ إصْبَعَينِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحمنِ » (78) وهو مِن أحاديثِ الصِّفاتِ { صَفْحَة : 6 }، ولم يقل : دِماغُ المؤمن … إلخ .
والأحاديثُ بِمثِلِ هذا كثيرةٌ جِدّا فلا نُطيلُ بها الكلامَ .
[ الخُلاصَةُ ]
وقد تَبَيَّنَ ممَّا ذَكَرنا : أَنَّ خالِقَ العَقلِ وواهِبَهُ للإنسانِ بَيَّنَ في آياتٍ قُرآنِيّةٍ كَثيرةٍ أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وخالِقُهُ أعلمُ بمكانِهِ مِن كَفَرَةِ الفَلاسِفَةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم كما رَأَيتَ .
أمَّا عامَّةُ الفَلاسِفَةِ إلاَّ القليلُ النَّادِرِ مِنهُم فإنَّهم يَقولونَ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وشذَّت طائفةٌ مِن مُتأخِّريهم : فزَعَموا أنَّ العَقلَ ليسَ لهُ مَركَزٌ مَكانِيٌّ في الإنسانِ أَصلاً ؛ وإنَّما هو زَمانِيٌّ مَحضٌ لا مَكانَ لهُ .
وقولُ هؤلاءِ أَظهَرُ سُقوطاً مِن أنْ يُشْتَغَلُ بِالكَلامِ عَلَيهِ .
ومِن أشهرِ الأَدلَّةِ التي يَستَدِلُّ بها القائلونَ مِنْ أنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ ؛ هو : أنَّ كلَّ شيءٍ يُؤثِّرُ في الدِّماغِ يُؤثِّرُ في العقلِ .
ونحنُ لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ؛ ولكن نَقولُ بِموجِبِهِ , فنقولُ : سَلَّمنا أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلكَ يَستَلزِمُ أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ :
فَكَم مِن عُضوٍ مِن أعضاءٍ الإنسانِ خارِجٌ عَنِ الدِّماغِ بلا نِزاعٍ وهوَ يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ كما هوَ معلومٌ .
وكَم مِن شَلَلٍ في بعضِ أعضاءِ الإنسانِ ناشِئٌ عَن اختلالٍ واقِعٍ في الدِّماغِ .
فالعقلُ خارِجٌ عَن الدِّماغِ ؛ ولكنَّ سَلامَتَهُ مَشروطَةٌ بِسلامَةِ الدِّماغِ ؛ كالأعضاءِ التي تختلُّ باختِلالِ الدِّماغِ ؛ فإنَّها خارِجَةٌ عنهُ معَ أنَّ سلامَتَها مَشروطٌ فيها سلامَةُ الدِّماغِ كما هوَ معروفٌ .
وإظهارُ حُجَّةَ هؤلاءِ والرَّدُّ عليها على الوجهِ المعروفِ في (آدابِ البحثِ والمناظرةِ) :
أنَّ حاصِلَ دليلِهم : أنهم يستدلون بـ(قياسٍ منطقيٍّ) من الشرطِ المتَّصلِ المركَّبِ من : شَرطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزومِيَّةٍ واستِثنائِيَّة يَستَثنونَ فيهِ نَقيضَ التَّالِي فينتجُ لهم في زعمِهم دعواهُم المذكورَةُ والتي هي نَقيضُ المقدَّمِ .
وصورَتُهُ : أنَّهم يقولونَ : ( لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ على الدِّماغِ ، لكنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ مُؤَثِّرٍ على الدِّماغِ . فَيَنتُجُ : أَنَّ العقلَ في الدِّماغِ ) .
وهذا الاستدلالُ مردودٌ بالنَّقضِ التَّفصيليِّ الذي هوَ المنعُ ؛ وذلك : بِمَنعِ كُبْراهُ التي هيَ شَرطِيَّتُهُ ؛ فنقولُ :
المانِعُ : مَنعُ قولِكَ : (لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ علي الدِّماغِ) بل هو خارِجٌ عَن الدِّماغِ ، معَ أَنَّهُ يتأثَّرُ بكلِّ مؤثِّرٍ على الدِّماغِ كغيرِهِ مِنَ الأعضاءِ التي تتأثَّرُ بِتأثّرِ الدِّماغِ . فالرَّابطُ بينَ التَّاليِ والمقدّم غَيرُ صحيحٍ ، والمحلُّ الذي يَتوارَدُ عليهِ { صَفْحَة : 7 } الصِّدقُ والكذِبُ في الشَّرطِيَّةِ إنَّما هو الرَّابِطُ بين مُقَدِّمِها وتاليها , فإنْ لم يكُن الرَّبطُ صَحيحاً كانَت كاذِبِةً , والرَّبطُ في قَضِيتِهم المذكورةِ : كاذِبٌ , فظهرَ بُطلانُ دَعواهُم .
وهناكَ طائفةٌ ثالثةٌ : أرادت أنْ تجمعَ بينَ القولين ؛ فقالتْ : إنَّ ما دَلَّ عليه الوحي مِن كونِ محلِّ العقلِ هو القلبُ صحيحٌ , وما يقولُه الفلاسفةُ ومَن وافَقهُم من أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ صحيحٌ أيضاً , فلا منافاةَ بينَ القولَين .
قالُوا : ووجهُ الجَمعِ أنَّ العقلَ في القَلبِ كما فِي القُرآنِ والسَّنة ، ولكنَّ نُورُهُ يَتَصاعَدُ مِنْ القَلبِ فيتَّصِلُ بِالدِّماغِ ، وبواسطةِ اتِّصالِهِ بالدِّماغِ يَصدُقُ عليهِ أنَّهُ في الدِّماغِ من غيرِ مُنافاةٍ لكونِ محلِّهِ هو القلبُ .
قالُوا : وبهذا يندَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ النَّظرِ العَقلي الذي زعمَهُ الفلاسفةُ وبَينَ الوَحي .
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمعِ بـ(الاستقراءِ غَيرِ التَّامِّ) وهوَ المعروفُ في الأصولِ بـ(الإِلحاقِ بالغالبِ) وهو حُجَّة ظنِّيَّةٌ عِندَ جماعةٍ مِنَ الأصوليينَ ، وإليه أشارَ صاحبُ (مراقي السُّعودِ) في كتابِ الاستدلالِ (79) ، في الكلامِ على أقسامِ الاستقراء بقوله :
وَهْوَ لَدَىَ البَعْضُ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبَ يُسْمَى لُحُوْقَ الفَرْدِ بِالَّذِيْ غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ (الاستقراءَ) هوَ : تَتَبّعُ الأفرادِ حتى يغلبَ على ظنِّهِ أنَّ ذلكَ الحكمَ مُطَّرِدُ فِي جميعِ الأَفرادِ .
وإيضاحُ هذا : أنَّ القائلينَ بالجمعِ المذكورِ بين الوحيَ وأقوالَ أهلِ الفلسفَةِ في محلِّ العقلِ ؛ قالت جماعةٌ منهُم : دليلُنا على هذا الجمعِ الاستقراءُ غيرُ التَّامِّ , وذلك أنَّهم قالوا : تتبَّعنا أفرادَ الإنسانِ الطَّويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً زائِداً على المعهودِ زِيادَةً بَيِّنَةً ؛ فوجَدنا كلَّ طويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً ناقِصَ العَقلِ ؛ وذلك لأنَّ طولَ [ العُنُق ] (80) طولاً مُفرِطاً يلزمُهُ بُعدَ المسافةِ بينَ طريقِ نُورِ العقلِ الكائنِ في القلبِ وبينَ المتصاعِدِ منهُ إلى الدِّماغِ , وبُعدُ المسافةِ بينَ طَرَفيهِ قد يُؤدِّي إلى عدمِ تماسُكِه واجتماعِه فيظهرُ فيه النَّقصُ .
وهذا الدَّليلُ كما ترى ليسَ فيه مقنَعٌ وإنْ كان يُشاهَدُ مِثلَهُ في الخارِجِ كَثيراً .
? فتَحصَّل مِنْ هذا :
أنَّ الذي يقولُ : ( أنَّ العقلَ في الدِّماغِ وحدَهُ وليسَ في القلبِ منهُ شيءٌ ) أنَّ قولَهُ في غايةِ البُطلانِ ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لآياتٍ وأحاديثَ كثيرةٍ جدّاً كما ذَكَرنا بعضَهُ .
وهذا القولُ لا يتجرّأُ عليهِ مسلمٌ إلاَّ إن كانَ لا يُؤمِنُ بكتابِ اللهِ ولا بِسُنَّةِ رسولِهِ ( ؛ وهوَ إنْ كانَ كذلكَ : فَلَيسَ بمسلمٍ { صَفْحَة : 8 } .
ومَنْ قالَ : ( إنَّهُ في القلبِ وحدَهُ وليسَ في الدِّماغِ منهُ شيءٌ ) فقولُهُ هو ظاهِرُ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِهِ ( ، ولم يقُم دليلٌ جازمٌ قاطعٌ مِن نَقلٍ ولا عقلٍ على خِلافِهِ .
ومَنْ جمعَ بينَ القولينِ ؛ فقولُهُ : جائزٌ عَقلاً ، ولا تكذيبَ فيهِ للكتابِ ولا للسّنّةِ ، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ؛ ولا دليلَ عليهِ منَ النَّقلِ ؛ فإنْ قامَ عليهِ دليلٌ مِن عقلٍ أو استقراءٍ محتجٌّ بهِ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِه . والعلمُ عندَ الله .
وهذا ما يَتَعَلَّقُ بِالمسأَلَةِ الأُولَى
MHDz- مراقب
- عدد الرسائل : 802
المزاج : alhamdo'lilah
عدد النقاط : 45191
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 15/01/2010
رد: ما هو محلُّ العقلِ للشيخ الامين الشنقيطى رحمه الله
بارك الله فيك اخي لى هذه المواضيع المنتقاة بصفة مميزة ننتظر من عند المزيد من المواضيع المهمة
سلسبيل32- مشرف
- عدد الرسائل : 1573
تاريخ الميلاد : 12/02/1990
العمر : 34
عدد النقاط : 48147
السٌّمعَة : 33
تاريخ التسجيل : 03/05/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى